الطيّار بين حنين الماضي وألم الحاضر
بلغ الخمسين من عمره، لكن ملامحه لا تزال تحمل شيئًا من بريق السماء الذي رافقه طوال سنوات الطيران. كان يجلس قرب النافذة، يراقب الطائرات وهي تقلع وتحطّ، كأن كل واحدة منها تحمل جزءًا من روحه الذي لم يعد قادرًا على التحليق.
في الماضي، كان الطيران بالنسبة له أكثر من مهنة، كان حلمًا يعيشه بكل جوارحه. كان يشعر بالحرية المطلقة بين الغيوم، حيث لا قيود ولا حدود، فقط أفق مفتوح وسكون يملؤه السلام. كان يبتسم حين يلامس عجلة الطائرة مدرج المطار، فذلك الصوت كان بالنسبة له موسيقى النصر.
أما اليوم، فقد أصبح أسير الأرض. تعب الجسد، وضعفت العينان، وبدأ الزمن يرسم خطوطه على وجهه كما يرسم الريح طريقها على الرمال. لم يعد قادرًا على الجلوس لساعات خلف المقود، ولا على مقاومة صمت الليل حين يشتد عليه حنين الماضي.
يحمل في قلبه صورًا كثيرة: زملاء غادروا، مدنًا رآها من الأعلى فقط، وسماءً كانت يومًا بيته الكبير. لكن ما يؤلمه ليس فقدان الطيران فحسب، بل ذلك الإحساس العميق بأنه أصبح غريبًا عن زمنه، زمن لم يعد يشبه السماء التي عرفها ولا الناس الذين كان يحلّق معهم.
ورغم كل شيء، ما زال حين يسمع هدير محركات الطائرات يرفع رأسه إلى السماء، بعينين تلمعان كأنهما تقولان:
“ربما لم أعد أطير بجسدي، لكن قلبي… لا يزال هناك، بين الغيوم.”
بقلم الكابتن فاروق السامرائي



 
                                    
