قصة روائية قصيرة
-ليلة ضلمة
قلبه الصغير يخفق بسرعة، وكأن نبضاته تسابق أنفاسه المتقطعة.
جلس ياسر، الذي لم يتجاوز عمره أحد عشر عامًا، خلف الباب محتضنًا بين ذراعيه حمودي، شقيقه الأصغر. واضعاً يديه الصغيرتين على أذني حمودي، محاولًا حمايته من سماع ما يجري، وبنفس الجلسة المألوفة التي اعتادها، يتنصت بتمعن إلى نفس الصيحات و المناقشات التي لا يفقه الغاية منها ولا السبب من ورائها.
الأب! يضرب الطاولة الخشبية بعنف، وكلماته القاسية تملأ الفراغ بصداها. على الجهة الأخرى، زوجة الاب، بنبرة لا تقل حدة، تطلق من صدرها كل ما يحمل من ألم وضجر، تلعن الأيام وواقعها البائس، و العيش الهزيل في ذاك المنزل الحقير الذي لم يكن بأحسن حال من البيوت القديمة المهترئة التي تحيط بهم في منطقة الكسرة الشعبية، في قلب بغداد المتعب.
أغمض ياسر عينيه للحظة، علّه يهرب من ضجيج العالم من حوله، ثم همس بصوت خافت:
“إنه الشجار مرة أخرى…”
الاعظمية- شباط ٢٠١٧
⁃ “ماريدك لا انته و لا اولادك دمرت حياتي”
كانت تلك الكلمات الأخيرة التي نطقت بها زوجة الأب، تبعتها ضجة صدى الباب الحديدي العتيق وهو يُغلق بعنف.
تركت وراءها كل شيء: الملابس البالية، الصور القديمة، كم قطعة من الحلي المزخرف، بل وحتى الذكريات والمشاعر. رحلت…
خيم الصمت المطلق على أرجاء البيت، وارتسمت على وجه حمودي البريء ملامح من الحيرة والذهول.
⁃” ياااسر!! جيبلي الجنطة الجبيرة و حظر اخوك يلة! راح تروحون بيت عمة سهام.. قال الاب”
ركض ياسر حافي القدمين بلا تردد، وقد خلت رأسه من أي فكرة، مدركًا أن ما ينتظرهم سيكون كابوسًا جديدًا في منزل سهام، عمة الأب القاسية، الواقع في منطقة الوزيرية بالقرب من مسرح الطليعة، الذي جسّد شغف ياسر وحلمه في أن يصبح ممثلًا مسرحيًا ذات يوم.
لم يكن هذا الحل الأفضل للأب، لكنه اعتبره الخيار الوحيد لضمان سلامة أطفاله، متهربًا من مسؤولياته تحت ذريعة عمله كعامل يكافح لتأمين لقمة العيش وسداد إيجار المنزل الذي تركه بعد وفاة زوجته الأولى وتخليه عن زوجته الثانية.
كان يتجنب العودة إلى بيت العمّة، مدّعيًا أنه لا يريد إثقال كاهلها، بينما الحقيقة أنه كان يقضي وقته متسكعًا في شوارع بغداد، غارقًا في السكر.
مرّت احدى وعشرون يوماً على غياب ياسر عن المدرسة، تاركًا خلفه آثار خربشات قلمه على الرحلة، بينما وُشمت على وجهه الناعم وأذنيه خدوش أظافر عمّة أبيه الرديئة و آثار صفعات متتالية التي هزت الرجولة الصغيرة في كرامته بل وكانت تلك الصفعات عِلة ليخرج من صمته.
دخلت العمة سهام إلى الغرفة، حيث كان ياسر وأحمد منشغلين باللعب بشاحنة بلاستيكية الصغيرة أحضرها حمودي معهم عندما خرجوا من المنزل
⁃ العمة: ياسر! …. ياااسرررر.
. يعني جم مرة اصيح عليك، وينك ها؟!
يلة جيب اخوك و تعالو اتزقنبو..
⁃ ياسر: لتكولين “اتزقنبوا”، منريد ناكل.
⁃ العمة: يعني فوگ ما گاعدين على گلبي، وتطول لسانك؟!،
ابن الشوارع! ( تشده من اذنه) يلة گوم!!
⁃ ياسر: شيلي ايدج اني مو ابن الشوارع زين!!! انتي بنت الشوارع.
العمة تندفع بسرعة وتصفع ياسر بقوة، صوت الصفعة يملأ المكان!
⁃ العمة: اني راح أأدبك، (تشد أذنه وتصفعه مراراً و تكراراً…)
⁃ ياسر: وخرييييي عوفينييي ليش تضربيني؟؟؟؟؟
أمسك ياسر بيد أخيه أحمد بقوة، وركضا معًا هاربين من المنزل، تاركين خلفهم قسوة المعاملة التي أثقلت قلوبهم الصغيرة، وفقدان حنان الأهل الذي كسر أرواحهم البريئة. ركضا بلا وجهة محددة، يتبعان قدميهما نحو المجهول، حتى وجدوا أنفسهم متجهين نحو منطقة الكسرة، تلك التي كان ياسر يشعر فيها بشيء من الدفء والطمأنينة.
بشغف الطفولة الذي لم يفارقهم رغم الأحزان، قادتهم أقدامهم الصغيرة إلى حديقة الاُم، حيث كان الأطفال يلهون ويلعبون. هناك، كان حمودي الصغير بين الصغار، يضحك ويمرح معهم، غير مدرك للثقل الذي يحمله ياسر في صدره، وهو في سنواته القليلة، يحاول أن يكون الأخ الكبير والحامي رغم صغر سنه.
شحب وجه السماء، وتلونت باللون الرمادي الذي يسبق الليل، بينما مالت الشمس بخجل نحو الغروب، تلقي أشعتها الأخيرة على الساحة الواسعة.
تعالت أصوات الأمهات من بعيد ينادين أطفالهن للعودة إلى المنازل، لكن لم يكن من بينها من ينادي باسم ياسر أو أحمد.
تناثرت خطوات الصغار، تاركين الساحة فارغة إلا من ياسر وأحمد، يقفان وحيدين في مواجهة صمت المساء. على مقربة منهما، يجلس رجل مسن، أثقل الزمن كاهله وأثلج الشيب وجهه. كان منشغلاً بلف سيجارة تبغ بيدين مرتعشتين، وكأنها طقوسه اليومية لمواجهة تعب السنين وشقاء الحياة، في انتظار لحظة هدوء تحرقها أنفاسه مع أول شرارة.
⁃ احمد: ياسر ..
⁃ ياسر: نعم حمودي؟!
⁃ احمد: اني جوعان
⁃ ياسر: راح ناكل بس هسة لازم نروح ندور على ابوية! ( كان يعلم ياسر ان والده يحتسي الكحول و بعد مغيب الشمس يلتجئ الخمارة قرب جسر الصرافية ليشرب)
راح يمشي ياسر و احمد بين الشوارع والأزقة باتجاه ملعب الكشافة ليسلكوا طريقاً مختصرا إلى جسر الصرافية على امل ان يجد والدهم هناك.
لملم ياسر بقايا خبز وقطعاً من الخضار والفواكه شبه الفاسدة من زوايا المطاعم الشعبية ودكاكين سوق الكسرة العتيق، ليأكل ويطعم أخاه الصغير، بعد ان يواصلا السير بلا توقف بينما كانت الأرض الباردة تنقل برودتها إلى أقدام أحمد الصغيرة، التي بدأت ترتجف من شدة البرد. نادى أحمد بصوت ضعيف:
- أحمد: ياسر، أنا كلش دا أبرد، شوكت نرجع للبيت؟!
- ياسر: إذا ما شفنا أبوية! مراح نرجع اليوم… ولا باجر!
- أحمد: زين وين أبوية؟ أني أريد أبوية!
- ياسر: تعال وياي، لا تخاف. الدنيا كامت تظلم، وهسة هو أكيد هناك.
- أحمد: وين هناك؟
- ياسر: هناك…
غطت سماء المدينة بوشاح أسود، وكأنها لوحة حزينة غارقة في سكون الليل. تردد في الأجواء همس الرياح، يعانق أنغام الة عود تتسلل من بعيد. أمسك ياسر بيد أحمد ومضيا في طريقهما حيث الموسيقى حتى وصلا إلى مجموعة من الشباب تجمعوا على الرصيف. كانت ضحكاتهم تتناثر في المكان، أحدهم يصفق، وآخر يعزف على العود، بينما يجلس ثالث يدخن سيجارته بعمق وكأنه يستنشق معها الاف الحكايات من الحنين والعشق. وفجأة، انطلق صوت شجي من أحدهم يغني بحزن وإحساس:
“جيت اسألك يادار عن قرة العين
يادار قوليلي وين رحلوا وين
يادار اسأل وين الأحباب
ملهوف انا وعايد من غياب ..
يادار ماشفناهم سنين .. قولي .. يادار قوليلي وين رحلو وين
“
ابتسم حمودي وبدأ يحرك رأسه يميناً ويساراً متمايلاً مع إيقاع الأغنية، بينما ظل ياسر شارداً، غارقاً في أفكاره دون أن يرمش له جفن. سأل نفسه: من هؤلاء؟ وماذا يفعلون هنا؟ لعلهم عائدون من بلاد بعيدة! لا، بل أنا متأكد أنهم من هناك، فهم لا يشبهوننا في لباسهم ولا في تصرفاتهم. لكن لماذا عادوا؟ لماذا تلمع في أعينهم دموع الشوق؟ ولماذا تركوا نعيم العيش الكريم أصلاً؟ راجعين إلى أرض الديار يبحثون عن دار؟
وأنا… في قلب الدار ضيعت وطناً!
لكن… لا يهمني. لو كانوا فعلاً يحبون الدار والديار لما رحلوا وتركونا منذ البداية. على أي حال، الآن ليس وقت هذه الأسئلة. يجب أن أجد أبي الليلة.
- ياسر: حمودي، يلا نروح.
واصل ياسر وحمودي السير حتى اقتربا من الجسر. اختار ياسر مكاناً آمناً تحت شجرة صغيرة تتدلى أغصانها، ليختبئا هناك ويراقب المكان من بعيد، على أمل أن يروا والدهم مع أصحابه جاؤوا يحتسون الخمر.
بدأ ياسر ينظف المكان بيديه، ثم جمع بعض قطع الكرتون ليفرشها على الأرض ليجلسا عليها بعيداً عن الحشرات.
جلسا يتناولان ما جمعاه من طعام، بينما بدت ملامح التعب واضحة على وجه حمودي الصغير. خلال دقائق، فرش ياسر قطعة كرتون وطواها لتصبح وسادة صغيرة لحمودي، الذي استلقى مرهقاً وغط في النوم بسرعة. بينما كان يمسك بيديه قطعتين من الخبز اليابس، تركهما كعادته للعصفورة.
أما ياسر، فقد بقي مستيقظاً، وعيناه تحدقان في الظلام. ازداد نبض قلبه، وبدأ الخوف يتسلل إليه عندما سمع أصواتاً قادمة من بعيد.
لمح رجلين يحملان كيساً أسود بداخله قوارير خمر. ارتبك ياسر، ومن شدة الخوف جمع بعض الحجارة الكبيرة، وأمسك بقارورتين زجاجيتين مكسورتين بيديه، محاولاً تجهيز نفسه للدفاع عن اخاه احمد.
كان يرى في مخيلته ان من يحتسي الخمر شخصُ شرير ، بلا رحمة، يسرق الأموال، يعتدي على الأبرياء، بل ويخطف الأطفال. لم يفكر مرتين.
ظل ياسر مستعداً لأي هجوم وقلبه ينبض بعنف، لكنه كان عازماً على حماية أخيه بأي ثمن.
بقي ياسر على حاله، يحدق في الظلام، يترقب أي حركة.
مرت الساعات ببطء شديد، حتى كسر الصمت صوت خطوات قريبة. كان القادم رجلاً أسمر البشرة، بعينين حمراوين وندبة بارزة تمتد على وجهه. كان يتجه نحوهما بخطوات ثابتة، ويداه موضوعة على حزامه كأنه يستعد لشيء.
شعر ياسر أن هذه هي اللحظة المنتظرة، اللحظة التي جمع لها كل شجاعته. أمسك القارورة المكسورة بقوة، وعزم على الهجوم بكل ما أوتي من قوة، مغروساً في خوفه وتصميمه على حماية أخيه الصغير. لكن فجأة، وفي جزء من اللحظة، انحرف الرجل عن مساره، واستدار إلى الجهة الأخرى. بدأ يتبول وهو يتمايل، يظهر عليه فقدان التوازن كالمتسكعين في الطرقات.
رفع الرجل بنطاله بعشوائية ثم مضى بعيداً.
شعر ياسر براحة عميقة تسللت إلى صدره، وأدرك أن هذا الرجل لم يكن سوى معتوه، لا يمثل أي خطر.
عاد ياسر إلى مراقبة المكان بعينين متيقظتين، متجاهلاً التعب. مرت ثلاث ساعات أخرى، ورأى الشرّابة يغادرون واحداً تلو الآخر، دون أن يكون والده المنتظر بينهم. في النهاية، ساد الصمت في كل مكان، واختفى أي أثر للحركة.
بدأ الليل يسرق من ياسر يقظته، وشيئاً فشيئاً، غلبه النعاس.
تدلى رأسه على ساق الشجرة الصغيرة، وأغلق عينيه ببطء، غارقاً في أمان مؤقت وسط ظلام الليل.
—————————
إنه يوم جديد!
أشرقت الشمس، فصبغت السماء بلونٍ أشبه بلون الجنة، وألقت بأشعتها الدافئة على المدينة، تعلن بدء حياة جديدة. استيقظت على زقزقة العصافير، وأصوات عربات تملأ الجسر حركةً ونشاطاً. بعضها يسير بثبات يقودها أصحابها، وبعضها يُدفع بجهدٍ شاقٍ من أجل لقمة العيش الحلال.
أما أنا… فلا أبي هنا! ولن أجده. ولن أسعى بعد اليوم للبحث عنه. لقد قررت! من هذه اللحظة، أنا سيد نفسي، وأنا المسؤول عن أحمد، أخي الصغير.
في الدقائق الماضية، كنتم تقرأون حكايتي بصوت الراوي، صوت ضميري الذي يروي لكم ما يحدث. لكن الآن، لا أريد أن أفكر بصمت. بل سأرفع صوتي! سأقولها بأعلى ما أستطيع: أنا رجل، رغم صغر سني. سأعمل، سأجتهد، سأربي أحمد، وسأعيش بكرامة.
أنا جزء من أمجاد هذه الأرض، ابن الحضارة.، حكايتي هي حكاية العراق وبغداد تسكن قلبي، لا أحد يعرف نهاية قصتي، كما لا أحد يعرف نهاية قصة العراق.
لكن سأطمئنكم: إن استطعت أن أمضي ليلة واحدة بشجاعة، فبوسعي أن أعيش حياة كاملة، أربي أجيالاً، وأعيش بكرامة.
هذا وعدي، وهذا إيماني!
اما في النهاية!
أوصيكم بالعراق خيراً… احموا أطفاله الصغار، فهم بذرة المستقبل التي ستنبت السلام
وافتحوا للشباب أبواب الفرص، فهم اليد التي تبني، والحلم الذي ينهض.
لا تنسوا كبار السن إذا مروا بكم، ألقوا عليهم السلام، فهم جذور هذه الأرض وحكاياتها الباقية.
ولكل سيدة عراقية، أعطوا وردة، فهي العطر الذي يملأ حياتكم، وهي الحضن الذي يصونكم طول الدهر…
نادن حنا.
12-15-2024