رياح عابرة.
بقلم : نادن حنا
Nadin Hanna
بين ضباب الماضي المليئ بالدفء والبراءة, والحاضر الصاخب الصامت العجيب, اجد تفسي ضائعا و مجرد من كل المشاعر..
عندما يتأمل الإنسان في حاضره، يجد نفسه أحيانًا أسيرًا بين هذين الزمنين ليبدأ الصراع الداخلي بين ذكريات كانت مصدرًا للطمأنينة والأمل، وبين واقع يفرض علينا تحديات جديدة وأحيانًا قسوة مريرة لا تُطاق.
أنت لا تستطيع نسيان ذلك الزمن الذي كان فيه كل شيء واضحًا وبسيطًا. لم تكن هناك تعقيدات في حياتنا اليومية، ولم تكن تطغى عليك أفكار المستقبل الذي لا نهاية له. كانت اللحظات التي تعيشها هي الأهم، وكانت الأيام تمضي كما لو أنها تهمس لك بأسرارها.
في مدينتنا الصغيرة , كان الناس يعيشون بتلك القيم البسيطة التي كنا نعتقد بأنها موجودة في كل مكان: الإخلاص، التضامن، والمحبة غير المشروطة…الخ كانت الأحياء الصغيرة تمثل عائلة كبيرة، والجيران ليسوا فقط أشخاصًا يقيمون بجانبك، بل هم من يتشاركون معك الفرح والحزن، يتعاونون معك في الشدائد ويشاركونك أفراح الحياة الصغيرة. في تلك الأيام، لم يكن للزمن مفاتيح، فقد كانت الساعة تدق بأناة وكأنها تعرف أن كل لحظة تقضيها مع من تحب هي الأثمن.
كانت العلاقات العائلية مرسومة بألوان دافئة، والجلسات المشتركة مع الأقارب كانت مليئة بالأحاديث الطيبة التي تجلب الراحة للنفس. هل تتذكر يا صديقي نبضات قلبك الاولى , تلك التي اشعلت فيك نيران الهوى؟ هل تتذكر ذلك الركن البعيد بين الازقة؟ ذلك المكان الذي كان يتوارى خلف شجرة التوت الكبيرة، حيث كان يضم نفسه بكل خجل، وكأن الطبيعة نفسها كانت تحاول إخفاء جماله عن أعين الناس. ذلك الركن الذي كان يحمل بين جدرانه قصص الحب والخجل! حيث كانت الحبيبة تعيش بين ذراعيه في أجواء من السكون والهدوء،
يا عالم! هل من المعقول ان ننسى كيف كان الحديث يتنقل بين الأفواه بلا خوف من التكرار تتسرب بهدوء كالماء في مجرى طبيعي، لا يعكر صفوه شيء
أما اليوم، فتجد نفسك في عالم مليء بالاقنعة الثمينة التي تتساقط في كل يوم. عالم مليء بالضغوط والسرعة. زمن يطاردك فيه الوقت بلا رحمة، كأن الساعة لا تكف عن الدوران، و كل دقيقة تحمل فيها عبئا جديدًا. تكنولوجيا حديثة لا تهدأ، وعالم مترابط على مدار الساعة، ولكنه مع ذلك يعزل الإنسان عن ذاته. في هذا الزمن، تجد نفسك غريبًا وسط هذا الزحام الذي يحيط بك من كل جهة. تقرأ الأخبار يوميًا، وتتعامل مع الرسائل والشاشات، ولكنك لا تشعر بأنك حقًا تتواصل مع أحد. الجميع منشغلون بأنفسهم، يبحثون عن نجاحاتهم وعيشهم السريع.
صرنا نركض وراء المستحيل. أصبحنا نبحث عن المعنى في كل شيء، بينما يغرقنا بحر من التفاصيل السخيفة التي لا تنتهي.
عبر هذه الأسطر المبعثرة، حاولت أن أعيد كرة حماقتي المتكررة، محاولًا أن أفتح طريقي لأهرب إلى الماضي واسترجع الذكريات ، إلى شارع بيتنا الضيق، إلى حيثما أنا وحيثما أنتمي… دون جدوى.
نادن حنا.. 11/20/2024